التجارة الموازية : الآثار والحلول : نجم الدين غربال

التجارة الموازية : الآثار والحلول 

نعتبر أن تناول ظاهرة التجارة الموازية بالدرس والتحليل ذو أهمية قصوى نظرا لاستقطابها لعدد كبير من المواطنين وقلق الكثير من الصناعيين والتجار وأصحاب الحرف من تناميها و كذلك لارتباطها بالأسعار والمقدرة الشرائية للمستهلك وأساسا لآثارها الخطيرة عليه وعلى الاقتصاد عموما وأيضا لفشل طرق التعاطي معها  لذلك نرى  أن أول خطوة لتناول هذه الظاهرة  تحديد منهجية التعاطي معها .

وسنجتهد ما استطعنا على تناول مسألة التجارة الموازية بطريقة علمية لما لهذه الطريقة من نسبة عالية من الموضوعية بعيدا عن التحامل أو الاصطفاف إلا وراء مصلحة المستهلك والاقتصاد الوطني عموما كما ينبغي التأكيد  منذ البداية على أهمية وجدوى التعاطي مع مثل هذه المسائل تعاطيا متعدد الأبعاد بعيدا عن السطحية والانتقائية أو الارتجالية .

إن الهدف المرجو تحقيقه من هذا المقال هو المساهمة في معالجة هذه الظاهرة بعد أن نشخص الداء فيها وكذلك لفت انتباه المعنيين بالأمر إلى أهمية التعاطي معها بطريقة جديدة تخدم الجميع بما فيهم الفاعلين فيها.

     1- تعريف التجارة الموازية

تعتبر التجارة الموازية نوعا من التجارة غير مستوفاة الشروط بما أنها تجارة تمارس بدون ترخيص قانوني أي بدون ما يعرف ب"البا تيندا" وكذلك بيع السلع دون أن تكون مسندة إلى فاترات وما يعنيه ذلك من تهرب جبائي وما يشكله من أكل لجزء من المال العام بدون وجه حق إذا كان مصدر السلع تونسيا ومنتج محليا أما إذا كانت السلع من مصدر أجنبي عبر تصاريح مغلوطة ومدلسة فذلك يمثل إضافة إلى ما سبق ذكره غطاء لاختراق أجنبي لفضائنا التجاري والتحكم فيه.

        2- تشخيص الظاهرة

تعتبر ظاهرة التجارة الموازية ظاهرة قديمة جديدة لكنها متفاقمة ومعقدة اكتسحت جل القطاعات وشملت عددا كبيرا من السلع كالمواد الفلاحية والغذائية ومنتجات البحر واللحوم والأدوات المدرسية والملابس والأحذية وغيرها كثير كما أنها غزت فضاءات لم تعد لممارسة التجارة فيها وذلك على حساب وظائفها الأصلية كقارعة الطرقات والأنهج والمنازل.

كما لوحظ توسع الأسواق المرخص لها أسبوعيا مكانيا وامتدادها زمنيا دون التزام بما هو مرخص فيه وكذلك عرض المنتجات المستوردة عشوائيا في المعارض والمنازل التي أصبحت فضاءات تجارية موازية خاصة من طرف النساء يصعب مراقبتها.

وما يسجل أيضا جاذبية هذه الظاهرة خاصة للشباب الذين عجزوا عن الحصول على وظائف رسمية أو أخفقت الدورة الاقتصادية في استيعابهم وكذلك تجارا غادروا محلاتهم القانونية وفضلوا الهروب نحو الأسواق السوداء لمضاعفة نشاطهم وأرباحهم بعيدا عن الضغط الجبائي.

لقد استفحلت التجارة الموازية على حساب التجارة المنظمة والمقننة بتنوع في سلعها المعروضة وتدفقها باستمرار وكذلك بأسعارها المغرية حتى أصبح لها مركز ثقل ولها تأثيرات كبيرة على السوق المقننة وتجارها والأسعار والدولة والمستهلك وغيرهم.

           3- أصول الظاهرة

قبل سنة 1991 كانت كل الأنشطة التجارية خاضعة لنظام الترخيص سواء التجارة الداخلية أو الخارجية ثم وقع ابتدءا تحرير قطاع التجارة الداخلية ما عدى المشروبات الكحولية التي بقيت خاضعة للرخصة ثم تحرير التجارة الخارجية مع ضبط معرف ديواني يسند للمورد بعد أن يخضع للبحث عبر معاينته ومعاينة محله التجاري.

كانت الغاية من وراء التحرير خدمة الاقتصاد الوطني لكن دون توفير شروط إنجاح هذه السياسة مما افرز انفلاتا وفر إلى جانب سياسات تهميش الجهات المحرومة وتفاقم ظاهرة البطالة إطارا خصبا لنمو ظاهرة التجارة الموازية .

كما ساهم الانفلات الأمني الذي عقب الثورة التونسية وضعف الرقابة الذاتية الناتج عن ضعف الوازع الديني من جهة ومحدودية الوعي الوطني وكذلك إدراك آثارها السلبية حتى على ممارسها ذاته من جهة أخرى وكذلك ضعف الرقابة الرسمية داخليا وعلى الحدود في تفشي هذه الظاهرة التي لها آثار خطيرة على مختلف الأصعدة مما يستوجب عرضها تمهيدا إلى تلمس طريقة جديدة للحل تقطع مع المنهج  الممارس لمواجهتها والذي اثبت محدوديتها. 

        4- آثار التجارة الموازية

للتجارة الموازية نفع جزئي في امتصاص جزء من العاطلين عن العمل إلا أن ضررها أكثر من نفعها حيث أن آثارها السلبية خطيرة ومتعددة الأبعاد فهي لم تترك مجالا اجتماعيا ولا قطاعا اقتصاديا إلا استهدفته.

   فقد أثرت سلبا على المقدرة الشرائية العامة نظرا لأنها احد أسباب ارتفاع الأسعار ولمساهمتها في إعاقة الأسواق والسلطة التنفيذية على تعديل الأسعار بالشكل المجدي وفي إضعاف النسيج الاجتماعي والاقتصادي الوطني وكذلك في تراجع الاستثمار الداخلي والخارجي كما كان لبعضها الأثر الضار على صحة المستهلك وما يعنيه ذلك من عبث بالرأس المال البشري باعتباره أهم عنصر من عناصر الثروة لمجتمعنا وعلى الوضع الأمني والاستقرار عموما لما ألحقته من اضطراب في السياسات العامة للسلطة التنفيذية وإفقادها الفاعلية المطلوبة والنجاعة المرتقبة في حماية المستهلك وحسن إدارة الشأن الاقتصادي إضافة إلى عوامل أخرى كما عمقت  تهميش الجهات المحرومة.

تتسبب التجارة الموازية في التقليل من الكميات المعروضة في الأسواق المنظمة قانونيا وتبعا لذلك و حسب قانون العرض والطلب ترتفع الأسعار مما ينعكس سلبا على المقدرة الشرائية للمواطنين عموما والحال أنه لو ضخت الكميات الكبيرة المعروضة خارج ها ته الأسواق داخلها لازداد العرض ولعدلت الأسعار ووجد الجميع مصلحته سواء كان مستهلكا أو تاجرا منتجا أو موزعا وكذلك المجتمع بما تتحصل عليه الدولة من موارد لتحسين البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية لجميع المواطنين.

 كما تغيب الشفافية في التجارة الموازية على مستوى المعاملات الاقتصادية في السوق الداخلية لما تكتسيه من غموض وللمسالك المجهولة التي تتبعها وكذلك للتفاوت الصارخ بين تكلفتها وتكلفة التجارة المقننة مما يجعل المنافسة بين مختلف الأطراف التجارية غير شريفة مما يخلق تداعيات سلبية من شانها أن تضعف النسيج الاقتصادي والاجتماعي الوطني.

وبتفاقم التجارة الموازية يتراجع الاستثمار الداخلي الموجه للأسواق المقننة سواء كان محليا وأجنبيا لاستقطابها لجزء هام من الطالبين للسلع والبضائع داخليا وما لذلك من خسارة في خلق مواطن شغل إضافية وبأعداد هامة تفوق بكثير ما يوفره ذلك النوع من التجارة  وتأجيل غير محتمل لجلب الاستثمار والمستثمرين باعتبار ذلك أهم محرك للتنمية الموفرة للكرامة التي شكلت أهم مطلب من مطالب الثورة التونسية.

وبترويجها لبضائع مقلدة لا تستجيب بالضرورة للمواصفات المعمول بها في الأسواق المقننة ولما توفره من إطار يسمح بالتزود وتسويق منتجات خاصة من أصل حيواني في تجارة اللحوم البيضاء مثلا بدون شهادة سلامة صحية  أو منتجات البحر أو اللحوم الحمراء دون مراقبة صحية تمثل التجارة الموازية خطر حقيقي على صحة المستهلك لذلك نرى عليه أن ينتبه للمغالطة النقدية التي يوقعه فيها هذا النوع من التجارة فالسعر الرخيص الذي يجذبه للشراء قد يكلفه خسارة صحته وصحة فلذات كبده فهو يجهل نوعية البضاعة وكذلك مصدرها وهوية التاجر ويخسر بذلك حقه في التقاضي في حالة اكتشافه لحالة غش أو في حالة يلحق بصحته أو بصحة احد من يعولهم ضرر أو مكروه.

   إن التهرب من المعاينة والرقابة والابتعاد عن النور في التزود وجلب المواد والسلع وعدم المرور بالقنوات الرسمية يثير كثير من الشكوك ويضرب الثقة التي هي أساس المعاملات التجارية التي وان ضعفت خاصة بتراجع مستوى دخل الكثير من المواطنين وبارتفاع تكاليف الحياة من سكن وماء وكهرباء وصحة ودراسة ليصبح السعر المحدد شبه الوحيد في سلوك العديد من المشترين إلا أنها تنتظر من الجميع أن يتحمل مسؤوليتهم في تخفيض تكاليف الحياة الذي يبقى شديد الارتباط بمقاومة الفساد وممارسة الحوكمة الرشيدة وتقديس العمل وإشاعة روح البذل والعطاء والتطلع إلى غد أفضل بمزيد من التآزر والتعاون وكثير من التضحية وتجاوز التجاذب والتلاسن للابتعاد عن كل ما من شانه أن يولد الفرقة والفتنة وبذل كل ما في الجهد نحو التوحد على تنمية الوطن على مختلف الأوجه وفي اتجاه رخاء المجتمع وتوفير كل مستلزمات كرامة كل فرد فيه.   

إن المناخ الذي تحدثه التجارة الموازية من شانه أن يجعل التاجر الموازي نفسه في خطر يكون فيه عرضة للاعتداء من طرف المتضرر الذي يفقد حقه في التقاضي كما سبق أن ذكرنا كما أن تجارته وأرباحه  مهددة نظرا لعدم تمتعه بأي حماية مما يشيع حالة من الفوضى ويسود منطق الغاب وما لهذا المنطق من قدرة على تمهيد الطريق لتجارة الممنوعات وتبييض الأموال ونشاط العصابات المنظمة.

إن مثل هذا المناخ يساعد على إرساء تقاليد سيئة تقوم على عدم الوضوح بعيدا عن احترام مصالح الآخر ولا حقوقه ما من شأنه أن ينشر الجريمة كالسرقة والتجاوزات كالاحتكار مما يعمق عدم الثقة بين أفراد المجتمع.

بالإضافة إلى الآثار الأمنية الخطيرة لم تسلم البيئة والمحيط من تبعات التجارة الموازية فالتاجر الموازي بالإضافة إلى عدم إعطاء الحق لأصحابه حين يستغل فضاء عاما بدون مقابل يلحق أضرار بالبيئة والمحيط و بمتساكنيه مما يبرز إما جهلا بالمصلحة العامة وفي هذه الحالة وجب إشاعة الوعي بها أو تجاهلا منه مما يستوجب ترشيدا عاما. 

كما لم تسلم موارد الدولة من الاستهداف بحيث تقلل التجارة الموازية منها مما يؤثر سلبا على أدائها فضلا عن فقدان النجاعة للسياسات التجارية المتبعة نظرا لعدم توفر المعلومات الدقيقة والمعطيات الواضحة جراء التجارة الموازية فالمعلوم ان السياسات تبنى على معطيات ووفق معلومات وبقدر ما تتسع دائرة الموازي بقدر ما تتسع دائرة الجهل بالواقع وبالتالي بقدر ما تقل سلامة تشخيص الواقع مما يجعل السياسات المتبعة غير صالحة لمعالجة الواقع كما ان ذلك يحول دون استعمال الدولة لعدة آليات تحكمها في الأسعار لعدم وضوح كل مكونات الدورة التجارية لديها وان استعملتها كضخ كميات مستوردة مثلا من البضائع قد لاتحقق بها الهدف نظرا لعدم قدرتها على السيطرة على الوضع نظرا لتحكم التجارة الموازية على التجارة ككل وهيمنتها على مجريات الأمور. 

وأخيرا وليس آخرا كثيرا ما يتجه التجار الموازيين إلى المدن وضواحيها بحثا عن بيع أكثر ما يمكن بيعه في اقل وقت ممكن مما يقلل العرض في القرى والأرياف وكذلك في الجهات المحرومة لفقدانها الموارد ولتفشي البطالة فيها مما يجعل التجارة الموازية رغم حلها لمشكلة البطالة لبعض أفراد تلك الجهات إلا أنها لا تزيد تلك الجهات إلا تهميشا .

        5- الحلول المقترحة

 ما يمكن إقراره أن الأزمة ليست في الحلول أو في قدرة الاقتصاديين على استنباطها بل الأزمة خلقتها حالة  اللاتنمية التي تعرفها البلاد منذ عقود زادتها تفاقما أزمة أخلاقية على مستوى العلاقات والمعاملات على الصعيد الاجتماعي غذتها حالة الانفلات الأمني ما بعد الثورة وبحث مؤسسات الدولة في مرحلة الانتقال الديمقراطي على هويتها وطريقة تعاطيها مع مجتمعها الذي صار  صاحب الأمر في اختيار ممثليه فيها أو عزلهم.

الثابت أن الثورة قامت لمحاربة الفساد ولتمكين الناس من حقهم في العيش الكريم والثابت أيضا أن الوضوح والشفافية وتقنين النشاطات البشرية بما فيها التجارية هو الذي يمكن من محاربة الفساد لكن السؤال الجوهري كيف نقوم بواجب مساعدة هؤلاء المتاجرين الموازيين على ضمان حياة كريمة بدون اللجوء إلى هذا النوع من التجارة التي لا يختلف عاقلان في ضررها على المستويين الفردي والجماعي وعلى مختلف مجالات الحياة وكذلك على أداء الدولة التنموي وواقع المجتمع الحياتي ونسيجه ألعلائقي والتواصلي.         

تعتبر التجارة الموازية مشكل معقد لتعدد أصولها واختلاف أسباب تفاقمها كما أن ضررها أكبر من نفعها لذلك لابد من التدرج في إبعاد الناس عنها سواء البائع أو المشتري على حد سواء عبر حلول متعددة الأبعاد يتداخل فيها التربوي والثقافي والإعلامي والقانوني الإجرائي وكذلك التنموي والأمني بالاعتماد على :

  • تشريك كل الأطراف المعنية مباشرة بها من تجار موازيين ومتضررين ومستهلكين وسلطات.
  • تنسيق في أعلى مستوى بين وزارات الصناعة والصحة والتجارة والداخلية والمالية والتربية والشؤون الدينية.
  • توفير البنية التحتية الضرورية لكل الجهات المحرومة والقرى والأرياف المهمشة تشجع على الاستثمار وإحداث أسواق مزودة بالكهرباء والماء والمصرف الصحية و توفير الخدمات الأساسية لكي تحضي بمقومات العيش الكريم .
  • تعاون مع اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وكل رجال الأعمال على إدماج أكثر عدد ممكن ممن استقطبتهم التجارة الموازية.
  • القطاع الاجتماعي التعاوني وآليات التمويل الإسلامي كالزكاة والوقف والتمويل الأصغر لإحداث مواطن شغل تستوعب جزءا من العاطلين عن العمل.
  • العدالة الجبائية وإرساء منظومة ديوانية واضحة وعادلة وبسيطة.
  • إعادة توزيع عادل للثروة الوطنية عبر العمل على تحقيق الأهداف المرسومة لصندوق التعويض مثلا.
  • المراقبة الذاتية بتعميق الإيمان باليوم الآخر كدافع لفعل الخير وما ينفع الفرد والمجتمع وتجنب إلحاق الضرر بالآخر إنسان كان أو أي مكون من مكونات الإطار الذي نحيى فيه.
  • الأمن والرقابة الفاعلة في مختلف الفضاءات وعلى الحدود.
  • تنظيم السوق الموازية عبر التدرج إجرائيا وزمنيا مع المرونة والإصرار على الاستمرار حتى النجاح.
  • تفكيك الشبكات المنظمة للتجارة الموازية وتطبيق القانون بكل صرامة على المتاجرين بالممنوعات المستغلين لشبكات التجارة الموازية.
  • حملات توعية وبرامج إعلامية وسياسات تربوية وتفعيل المساجد في اتجاه نشر قيم الأخوة والتعاون على النفع العام والتنافس على فعل الخير للجميع دون استثناء والتدافع بالطرق السلمية وفي إطار ما يسمح به القانون حفاظا على القيم و درءا للفساد .

                                                                                                                                                                                              نجم الدين غربال : أستاذ اقتصاد وباحث في التنمية