تسجيل
المنشورات >   البنوك التونسيّة وضرورة الاصلاح

في تونس اليوم أكثر من عشرين بنك وهذا كثير على السوق الماليّة التونسيّة الضيّقة. بعض هذه البنوك له قدرات ونشاط وجدوى والبقيّة يشكو العجز والخسائر أو هي ضعيفة من حيث رأس المال، غير قادرة على المواجهة...

في عالم تأكله المنافسة، كان من الأصلح أن تتجمّع البنوك فتكبر وتقدر على مصاحبة المستثمرين والمصدرين وتصمد ان حصلت زوابع. كذلك تفعل كل بنوك الدنيا، شرقا وغربا و تعاضدها سلطات الاشراف في مسعاها الى التوحّد... إلا في تونس فالبنوك مشتّتة، مبعثرة كدويلات المماليك. كل بنك يريد أن يحافظ على استقلاليّته والإطارات على مناصبهم وعاداتهم. في تونس، نعتقد راسخا أن التفرّد أفضل وأن الجمع والاندماج فيه بعثرة وسوء مصير... ان كثرة البنوك العاملة اليوم في السوق التونسية لا تعني أن هناك منافسة وأن كل بنك يسعى جاهدا الى كسب الحريف والى تحسين الجدوى والجودة... لا تنافس اليوم حقيقة بين البنوك التونسيّة و لا تسعى هذه الى البحث عن أفضل سبل التصرّف. كذلك ترى اليوم في السوق جنبا الى جنب من البنوك من له جدوى وربح ومن هو في الخسارة غارق...

في تونس، تشكو عديد البنوك الخاصة منها والعموميّة، سوء التصرّف. كل الاحصائيات تثبت ما وصلت اليه من قروض مصنّفة، اي من قروض لم يقع خلاصها في آجالها وهي اليوم متعثّرة وبعضها «محروق». بحسب محافظ البنك المركزي، بلغت القروض المصنّفة للبنوك في شهر مارس الحالي نحو 12.5 مليار دينارا أي قرابة نصف مجموع الميزانية للبلاد التونسية لسنة 2014. هذا كثير وكثير جدّا... بحسب الشاذلي العيّاري، محافظ البنك المركزي خمس القروض الممنوحة لا تسترجع. أما الأسباب فهي لأنّ هذه القروض أعطيت لمن لا يستحقّ أو فيها زور وتحيّل أو لعدم القدرة على تطبيق القانون أو لعوامل اقتصادية أخرى...

أمّا الوضع في البنوك العموميّة الثلاثة فهو أشدّ وأعسر. تشكو الشركة التونسية للبنك والبنك القومي الفلاحي وبنك الاسكان منذ سنين من سوء التصرّف ومن الخلل المتواصل في الموازين. ازداد وضعها سوء في السنوات الأخيرة في ظل الانفلات الذي نعيش. في البنوك العموميّة تلقى أكثر القروض المحروقة. الشركة التونسية للبنك وحدها أقرضت القطاع السياحي نسبة 80 بالمائة من القروض الجملية أي لها ما يناهز 2.3 مليار دينار من القروض المتعثّرة في قطاع السياحة وحده. نفس التمشّي تلقاه في الصناعة وفي القطاعات الأخرى...

كثر الحديث مؤخّرا عن ضرورة اصلاح وضع البنوك العموميّة وإيجاد ما يجب من حلول جذريّة للخروج بها من المأزق. هناك، ثلاثة حلول، لا رابع لها. أولا. أن تضخّ الدولة ما يكفي من المال حتّى تنقذها من افلاس محدّق ولكن هذا التمشّي لا يضمن أبدا نجاح هذه البنوك.... ثانيا. أن يقع ضمّ بعضها لبعض فتلتقي الثلاثة في بنك واحد كما فعلت الدولة في سنة 2001 لمّا «ضمّت» البنك التونسي للتنميّة وبنك التنميّة السياحية في صلب الشركة التونسيّة للبنك مع العلم أن هذا الضمّ لم يوفّق ولم يحصل معه ادماج حقيقيّ ممّا زاد الوضع سوءا خاصة بعد الابقاء على كافة العاملين فغرقت الشركة التونسية للبنك بالموظّفين الزائدين. من الممكن أيضا اعادة هيكلة هذه البنوك ولكن هذا يلزمه مال كثير وخزينة الدولة غير قادرة اليوم على السير في هذا المنهج...

ثالثا. أن تلجأ السلطة الى التفريط في بعضها أو فيها جميعا، خاصّة واليوم يتواجد في السوق عديد البنوك ولا داعي لتدخّل الدولة في مجال فيه عديد المتدخّلين... قد يقول البعض ان في هذا الخيار بعض الغلو... من الممكن عندها بيع بنكين والإبقاء على واحد فقط. لعلّ الابقاء على البنك الفلاحي هو الأصلح لما يلعبه من دور أساسي في الدفع بالفلاحة ومن استثمار قد لا ترضاه البنوك الأخرى لما فيه من مخاطر... بعض المحلّلين يؤكّدون أن التفريط فيها جميعا هو الحلّ الأجدى والأفضل ولو بالملّيم الرمزي...

فرّطت تونس فيما مضى في عدّة بنوك منها بنك الجنوب والاتحاد الدولي للبنوك والبنك التونسي القطري والبنك التونسي الكويتي ولم يحصل أي ضرر بالسوق. بمثل هذا التفريط، تجنّبت الخزينة العموميّة المزيد من الدعم والخسارة وأصبحت هذه اليوم، بحسن التصرّف، مستقيمة الموازين، تربح مالا... ان تونس تعيش اليوم ضائقة ماليّة وفي ميزانيتها اخلالات بالجملة، فهل هي الفرصة السانحة لإعادة النظر في ما أتينا منذ سنين من اختيارات لا تصلح ومن سوء تصرّف ومن اهدار للمال العام...؟ ان الدولة مطالبة بالنظر في التعليم وكيف السبيل الى الرفع من مستواه، الى النظر في المستشفيات ودعم صحّة المواطن، الى توفير الأمن ومقاومة الارهاب... أما السعي الى انقاذ شركات وبنوك عموميّة أفسدها التصرّف منذ عديد السنين فهذا لا ينفع... لكن الاصلاح يلزمه شجاعة وعزيمة...

( دراسة نشرتها جريدة المغرب 22/3/2014 )